مقالات للكاتب

أحمد ضياء دردير

الإثنين 13 كانون الثاني 2025

شارك المقال

دروس من الفتنة


يرجع البعض (في سياق الأزمة السورية وفي ما هو أبعد) إلى تاريخ الفتن لتصبح الأمور بلا حل منظور. ولكن بذور الحل قد تكون في دروس الفتنة ذاتها.
استحضار ما يعرف بـ«الفتنة الكبرى» دليل على ذلك، فبينما استحضارها يجعل الأطراف المختلفة ذات عداوة تاريخية تمتد عبر التاريخ (بدلاً من أن يكون الخلاف على مسائل عملية واقعة وحاضرة مثل الاستبداد والمخططات الأميركية والتمدّد الإسرائيلي)، فإن استحضار الفتنة اليوم هو في حد ذاته دليل على أن الفتنة لا تُحسم، وألّا خروج إلا بالتقاء الفرقاء (لا أتحدّث بالضرورة عن مساومات حول المصالح الصغيرة، وإن كانت طبيعة الأمور تفرض ذلك أحياناً، ولكن أيضاً عن طرح قضايا الأمة كنقاط التقاء).
فلا خلاف يعتبر على أن الحسن بن علي كان على صواب حين صالح معاوية بن أبي سفيان فعصم بذلك الدماء وأنهى الاقتتال، وأن صواب ما فعله الحسن لا ينفي بالضرورة أحقية الحسين بن علي حين خرج على يزيد أو أحقية علي بن أبي طالب حين حارب معاوية.


وهنا نقطة مهمة تحول دون الاعتراف بأن ما يحدث فتنة - ثم تحول دون الخروج منها: يتحرج البعض من مفردة الفتنة لظنهم أن هذا الوصف ينفي وجود قضايا عادلة ومواقف محقة. وهذا غير صحيح، فاختلاط الأمور والانجرار إلى معارك بين أبناء الأمة الواحدة إذ تفرض هذه المعارك الصغيرة منطقها الذي يصبح أكبر من القضايا الكبيرة كلها من عوارض الفتنة ولا يعني حدوث ذلك أن لا حق ولا باطل.
من السهل إسقاط هذا التحليل على «الفتنة الكبرى» ولكني أريد استخلاص الدروس من فتنة أقرب عهداً وسياقاً، وهي الحرب الأهلية اللبنانية.


فالقضايا الكبرى، العادلة والمحقة، من العدالة الاجتماعية إلى التحرر من الاستعمار، كانت حاضرة من بداية الحرب إلى نهايتها. ومعظم (إن لم يكن كل) القوى التي حملت هذه القضايا المحقة تورطت في فتن وحروب أزقة واقتتال أهلي بل وجرائم في بعض الحالات. الذين حموا المقاومة الفلسطينية من مؤامرات الانعزاليين والأنظمة، والذين واجهوا الاجتياح الإسرائيلي ودحروه، والذين طردوا المارينز والمظليين من بيروت، والذين صمدوا تحت قصف البارجة الأميركية نيو جيرسي، والذين طاردوا المشروع الأميركي من الجبل إلى شرق صيدا إلى الشريط الحدودي وصولاً إلى التحرير، كلهم على اختلافهم (وبغض النظر عن الموقف الشخصي أو السياسي من هذه الفصائل المختلفة وممارساتها في شتى مراحل الحرب) حملوا قضية تحررية عادلة استمرت منذ الـ1975 وتوجت بالتحرير سنة 2000. لكن منطق المسائل الصغرى، منطق الأزقة والعصبيات والطائفية والمناطقية، كان كثيراً ما يطغى على القضايا الكبرى ويقودها: حروب الجبل وشرق صيدا، والتي كانت حروباً ضرورية من أجل التحرير ومن أجل دحر المشروع الأميركي-الإسرائيلي، كانت كذلك فتناً طائفية ومناطقية، ولا يتعارض هذا مع ذاك، أو الفتنة هي أن يجتمع هذا وذاك.


ولكن المثال الأوضح لما أحاول أن أقوله هو حرب المخيمات: فلا شك أن الشرارة التي انطلقت في مخيمات الشمال ثم أشعلت حربي طرابلس والمخيمات كانت نتيجة الصدام ما بين المخابرات السورية وحلفائها من جهة وبين نهج التسوية العرفاتي من جهة أخرى. لدينا هنا قضية مصيرية كبرى، هي قطع الطريق على النهج العرفاتي ومنع انتشار النموذج الساداتي، أي بالمحصلة النهائية مقاومة التسوية الأميركية. لكن الحروب الأهلية لها منطقها «الصغير» الذي يصبح أقوى من منطق القضايا الكبرى؛ اختلطت هذه القضية الكبيرة بالمحاولات المستمرة لحافظ الأسد لفرض سيطرته على القرار الفلسطيني في لبنان، واعتدت حركة أمل على المخيمات وفرضت حصاراً على مخيم شاتيلا، وحدثت المجاعة الشهيرة في المخيم، وكان من الطبيعي أن يدافع أهل المخيمات عن أنفسهم من دون أن يعني ذلك أن يكونوا عرفاتيين.
ناجي العلي، وهو الذي كان من أشد الناس رفضاً للنهج العرفاتي، رسم في هذه الأثناء رسماً لطفل ترفعه أمه وسط الأنقاض بينما يصرخ «لن نرفع الأعلام البيضاء. لن نرفع سوى العلم الفلسطيني لحماية المخيمات». وبالمنطق نفسه، فإن حزب الله لم يكن أداة عرفاتية حين قرّر أن يقف مع المخيمات في هذه الحرب التي ألقت بظلالها كذلك على حرب الإقليم.


ويمكن لكل طرف في الحرب السورية أن يقيس على نفسه. هناك بالطبع من خرجوا أشراً وبطراً، بعضهم لمجد طاغية وبعضهم لمشروع أميركي تقسيمي، وأولئك وهؤلاء لا يعنوني في هذا المقال. ولكن هناك من خرجوا من أجل الحرّية من هذا الطاغية، وهؤلاء أصحاب قضية محقّة، وهناك مَن خرجوا من أجل مواجهة المشروع الأميركي وهؤلاء أصحاب قضية محقّة (بل وربما اعتقد الطرفان أنهما يقاتلان «لتكون كلمة الله هي العليا» وأن هذه القضايا هي التعبير السياسي عن هذا المبدأ القرآني)، ولكنهم، كما حدث في حرب المخيمات وكما يحدث في الحروب الأهلية، قاتلوا في فتنة. وكما حدث في عام 41 للهجرة، وكما حدث بين عامي 1989 و1990، لا خروج من الفتنة إلا بالتقاء الفرقاء. ما يجب أن يتمسك به كل مخلص هو أن يكون التحرّر من الاستعمار أحد الشروط التي يلتقي الفرقاء على أساسها.

* باحث عربي من مصر

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي